خطاب القرآن الكريم خاص بقوم الرسول وبزمانه



بسم الله الرحمن الرحيم
.

حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

كلمة لعل هنا للتعليل وليس للترجي .  لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: لكي تعقلوا.
هذه الآية التي افتتح بها الوحي سورة الزخرف تبين بكل وضوح أن الهدف والغرض والغاية من جعل القرآن عربيا هو أن يعقله (أي يفهمه) قوم الرسول عليه الصلاة والسلام لا غيرهم. أما الأعجمون (أي غير العرب) فقد قال فيهم:

وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ.

"وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ" أي ولو نزلنا هذا القرآن العربي "عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم" أي فقرأه الرسول ص على أولئك الأعجمين مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، بالطبع لأنهم لن يفقهوا ما يقول!!!

تبين هذه الآية بكل وضوح أنه من البديهي بالنسبة للأعجمين أن لا يؤمنوا بما جاء في القرآن الكريم، فهم غير مطالبين بالإيمان به أصلا ولا حجة عليهم بالمرة.

ويؤكد ذلك في الكثير من آياته،

يقول مثلا في مطلع سورة يوسف :

الر، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

افتتح السورة بالتنبيه على أن الخطاب لقوم الرسول خصوصا.

يقول الوحي في موضع آخر:

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.

الضمير في "لعلهم" يرجع إلى قوم الرسول ص بالتحديد، أليس كذلك؟ القرآن أنزل عربيا من أجلهم لا من أجل غيرهم.

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟

لله الحجة البالغة، هل يعقل أن يخاطب قوما بغير لغتهم وهو يعلم مسبقا أن ترجمة خطابه إلى لغات أخرى شيء مستحيل، ولا سيما أن الكتابة ووسائلها لم تكن متوفرة عند معظم الشعوب في ذلك الزمان.

لو نزل القرآن الكريم على الرسول (ص) بلغة أعجمية، كالصينية أو الروسية أو غيرهما، فمن الطبيعي أن لا يؤمن به قومه لأنهم لن يفقهوا ما يقول، وليس من المنطقي أن يكلفهم الله مشقة تعلم لغة أجنبية من أجل الترجمة وهو قادر على أن يخاطبهم بلغتهم، وليس من المعقول أيضا أن يكلفهم عناء ترجمته للغات أجنبية وأغلبهم أميون ليس فيهم من يحسن تلك اللغات ولا من يستطيع أن يتخلى عن مشاغله ليتفرغ للترجمة، ثم إن الترجمة مستحيلة تماما بالنسبة للقرآن الكريم، وهذا أمر متفق عليه، لأن الترجمة تختلف كثيرا حسب فهم المترجم وتأويله وانتمائه المذهبي.

وبمقتضى العدل الإلاهي فإن ما هو صحيح بالنسبة للعرب فهو طبعا صحيح بالنسبة للأعجمين، بما أن القرآن نزل بلغة غير لغتهم فمن البديهي أن لا يؤمنوا به. هذه هي الحقيقة، أحب من أحب وكره من كره.

يقول الوحي:

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

وفي آية أخرى:

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا.

اللسان هو اللغة. القرآن ميسر باللغة العربية من أجل قوم الرسول.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ....

لم يستثن أي رسول. كل رسول يتحدث إلى قومه بلغتهم، وهذا أمر طبيعي.

تدل هذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى متكفل بمسألة اللغة فلا حاجة للترجمة.

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.

تشير هذه الآية إلى حدود الإسلام الأصلية: أم القرى ومن حولها. القرآن نزل عربيا لينذر به أم القرى ومن حولها لا من أجل أن يترجم وينشر على نطاق واسع ولو أراد الله ذلك لأمر به بكل وضوح. الترجمة ليست مفروضة على الناس وإنما هي اختيارية وتطوعية.

لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أَفَلا تَعْقِلُونَ.

لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش كتابا فيه ذكركم، أي فيه شرفكم، من قبيل : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ. لو كان الخطاب موجها للأعجمين أيضا لما وجدت في القرآن الكريم مثل هذه الآية.

تأمل كذلك قوله :

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ.

يقول : "لك ولقومك" ولم يزد شيئا على ذلك، وعندما يخاطب أهل الكتاب مثلا فإنما يخاطب اليهود والنصارى من قومه لا الأعجمين منهم.

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ...

تبين هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى فوق جميع المذاهب والأديان، ولهذا فإن أي شخص لا ينتمي إلى قوم الرسول  لا يجوز وصفه بأنه مؤمن أو كافر حسب المفهوم الديني الإسلامي، فهو بالنسبة للإيمان والكفر كالرسول ص قبل البعثة إذ يقول فيه الوحي : مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ .

لا يمكن لأحد اليوم أن يقول بأنه من قوم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مضي كل هذه القرون، قوم الرسول هم سكان أم القرى ومن حولها في ذلك الزمان سواء كانوا مؤمنين برسالته أم لا، وعددهم حسب ما يروى لم يكن يتجاوز 35 إلى 40 الف نسمة على أكثر تقدير، أما أمة محمد ص فهم أتباعه المؤمنون برسالته على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.

كل رسول أرسل إلى قومه فقط :

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا.

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ.

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ.

...

المسيحية كذلك موجهة إلى بني إسرائيل فقط ، أما غيرهم فليسوا بمعنيين بها، وما تبنوها إلا إكراها أو انتهازا أو وراثة أوجهلا بطبيعة الرسالة:

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ،

وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ،

إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ.

تأمل، قال "ابْنُ مَرْيَمَ" ولم يقل عيسى بن مريم. وذلك تقليلا من شأنه حتى لا يعتقد قومه بأنه يهدف إلى إشراكه في الألوهية. ثم قال:

إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ.

فاطمئنوا، إنه لا يعنيكم أنتم يا معشر قريش، إنما أرسل عيسى إلى قومه فقط.

وفي آية أخرى:

وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ. مشيرا إلى عيسى بن مريم.

وفي زمن موسى كذلك كانت التوراة خطابا لا يعني إلا بني إسرائيل فقط، وما كان خطابه لفرعون إلا من أجلهم :

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

لا توجد في القرآن الكريم أية آية تدل على أن خطابه ملزم للجميع، ولا يمكن أن توجد مثل هذه الآيات وإلا فستكون في تناقض تام مع الآيات التي ذكرتها سابقا.

ولما انتقل الرسول ص إلى الرفيق الأعلى بادر المنتهزون إلى فرض فكرة أن القرآن الكريم خطاب موجه لجميع البشر، وأنه هو آخر خطاب إلهي، وأن الناس جميعا ملزمون باتباع كل تفاصيله، وهذا مستحيل طبعا، لأن ذلك يعني بالنسبة للأعجمين أن يتبعوا المترجمين والمؤولين على اختلاف آرائهم وتناقضاتهم ومذاهبهم. وقد حرصوا على هذه الفكرة حرصا شديدا من أجل السلطة والغزوات وجمع الزكوات والجزية بغير حق. وسخروا لمزاعمهم كثيرا من الأحاديث المكذوبة، كما ألصقوا لبعض الآيات العامة من القرآن الكريم تأويلات تخدم أغراضهم.

الذين يصرون على فرض ما يسمونه بالشريعة الإسلامية على الناس جميعا ويجاهدون من أجل ذلك هم أخطر الناس على المجتمع البشري، أغلبهم أميون شحنت أدمغتهم، وكثير منهم إنما يستغلون ميول الناس للتدين فيستعملون الدين كوسيلة للوصول إلى السلطة والتحكم في البشر، وكلا الصنفين عدو لحرية الفكر التي هي من الفطرة، ولحرية المعتقد، ومنبع للعدوان والإرهاب.

النص التشريعي في القرآن الكريم خاص بأصحابه وبزمانهم فلا داعي للاجتهاد فيه ولا جدوى من وراء ذلك.  تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

الرسالة-النبوءة ظاهرة طبيعية في جنس الإنسان، ظهرت منذ أزمان غابرة وستستمر ما دام الإنسان موجودا، ولكل رسول-نبيء أمته وأتباعه، من قومه ومن غير قومه، ولا معنى أن يكون أحدهم هو آخر النبيئين أو آخر المرسلين كما يدعي المسيحيون والمسلمون عموما فهذا من أعظم الكذب على الله.

ومن الجور الرهيب أن يفرض على أحد أن يؤمن برسالة ما أو بمذهب ما وهو في داخله غير مقتنع، فإن ذلك يتعارض مع الفطرة السليمة ويلحق أذى كبيرا بالكثير من الناس ولا سيما العقلاء منهم أصحاب الفطرة السوية.

الإيمان بالله ودعاؤه وحمده على نعمه والإسلام له والإلتزام بالقيم الإنسانية والمبادئ النبيلة باسم الله شيء مريح ومطمئن، والإنتماء إلى مجموعة دينية أو مذهبية أو صوفية واتباع ما جاء به أحد الرسل غالبا ما تكون فيه مصلحة نفسية ومادية وسكينة روحية بالنسبة للكثير من الناس ، أما الإيمان بأساطير الأولين مما يرويه فلان عن فلان عن عن عن والإحتجاج بذلك لتكفير الناس ومحاربتهم فذلك شيء مرفوض فطرة وعقلا.

الذين يزعمون بأن الخطاب القرآني بشريعته ومناسكه ملزم لجميع البشر غالبا ما يستندون إلى بعض الآيات القرآنية من قبيل:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.

في بعض التفاسير: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي...

حتى لو افترضنا أن "كافة للناس" تعني جميع الناس، كما جاء في معظم التفاسير، فهذا لا يعني سوى أن الخطاب موجه إلى جميع الفئات من قومه لأن فيهم المشركون والدهريون والصابئون واليهود والنصارى وغيرهم، فالخطاب أصلا موجه إلى قومه فقط.

وحتى لو ذهبنا بعيدا واعتبرنا أن "كافة للناس" تعني جميع الناس بدون استثناء، فقد وضح نوع هذه الرسالة بقوله "بَشِيرًا وَنَذِيرًا"، أي أن الرسالة الموجهة للجميع إنما هي رسالة تبشير وإنذار وليست رسالة لتشريع أو لفرض شيء معين.

ومثل ذلك قوله:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ.

وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.

أما قوله :

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

فمعناه: ومن يبتغ من قومك غير الإسلام دينا فلن يقبل منه... لأن خطاب القرآن الكريم كله خاص بقوم الرسول ص كما ذكرنا.

والمراد بالإسلام في هذه الآية هو الإسلام الإبراهيمي العام، أي عقيدة التوحيد، "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ" وهذا الإسلام العام لا يتضمن مناسك محددة ولا تشريعا محددا. الهدف من هذه الآية هو توطيد أسس الحكم في قومه ودرء الفتنة لأنه كان في حرب مع كفار قريش. أما كلمة الآخرة هنا فلا تعني بالضرورة ما بعد البعث، ربما تعني: في آخر المطاف، عندما ينتصر المسلمون على مشركي مكة ويصبح الأمر بأيديهم. قال: وهو في الآخرة من الخاسرين، ولم يذكر ماذا عساه أن يخسر، ولم يتوعده بالعذاب الأليم كما جرت العادة. ربما يعني بذلك أنه سيخسر مودة المسلمين فقط .

إن أقصى ما يمكن أن يدافع عنه الذين يريدون أن يفرضوا على الناس عالمية الخطاب القرآني هو قولهم بأن القرآن الكريم ذكر للعالمين، أي لجميع الناس، وأن الرسول ص نذير وبشير للجميع. أما أن يكون الخطاب بشريعته ومناسكه وجميع تفاصيله ملزما للجميع فهذا يتناقض مع الآيات الصريحة التي أشرت إليها سابقا.

يقول الوحي:

"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"

في القرآن الكريم غالبا ما تأتي لفظة العالمين كمرادف للفظة الناس وتحل محلها من أجل القافية. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" أي وما أرسلناك إلا رحمة للناس، يعني أن الهدف من الرسالة هو أن تكون رحمة لمن بلغته وفهم لغتها ومغزاها لا أن تكون بجميع تفاصيلها ملزمة للجميع، وهل في الإلزام والإكراه رحمة ! التأويل الخاطئ لهذه الآية ومثيلاتها يدفع بالكثير من الناس إلى التعصب في الدين وإلى اعتبار كل من يخالفهم في المعتقد عدوا تجب محاربته، وذلك ضدا عن الوحي الذي يقول:

قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ.

ويقول:

وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.

لو كان الرسول ص يمتاز على غيره بكونه آخر النبيئين أو آخر المرسلين لقالها الوحي صراحة وبكل وضوح حتى لا يكون في الأمر غموض، لأن المسألة في غاية الأهمية، ولا يتصور أن يسكت عليها الكتاب المبين.

هل يعقل أن يحبس رب العزة الرسالة عند قوم معين ويترك الناس يتخبطون في التفسيرات والتأويلات التي لا تنتهي وفي الأحاديث المعنعنة الكثيرة التي بالرغم من اجتهاد المجتهدين يستحيل أن يحسم في صحتها وسلامتها من الزيادة والنقصان!

لو كان الرسول ص هو آخر المرسلين كما يدعون لكان ذلك فيه حيف كبير بالنسبة للشعوب الأخرى التي لم ينزل القرآن بلسانها. فلا معنى أن تحاسب هذه الشعوب على مضمون خطاب لا يصلها إلا عبر مترجمين غير متفقين فيما بينهم.

الإعتقاد بأن الرسول ص هو آخر المرسلين أو آخر النبيئين ليس من شروط الإسلام ولا من أركانه وإنما هو بدعة وضلالة أحدثت لأغراض معروفة. الرسالة-النبوءة ظاهرة طبيعية في جنس الإنسان ولا معنى أن تكون قد انقطعت في وقت معين عند قوم معين. وحتى لو افترضنا أن القرآن خطاب موجه إلى كل البشر بدون استثناء كما قد يفهم البعض من قوله : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...، فهذا لا يعني أن الرسالة -النبوءة قد انقطعت.

أخطر كذبة عرفها التاريخ هي زعمهم بأن الخطاب القرآني ملزم لجميع البشر، وأن غير المسلم كافر يجب الجهاد المقدس فيه فرضا، كذبة أطلقها الطغاة بعد وفاة الرسول من أجل غزو الشعوب ظلما وعدوانا، وتستغلها الآن تلك الفرق الظلامية التكفيرية الخطيرة كمبرر للترهيب والظلم وسفك دماء الأبرياء، وذلك ضدا على القرآن الكريم الذي يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

النبي عليه الصلاة والسلام بريء من جميع الجرائم التي ارتكبت من بعده باسمه، ويتحمل وزرها من أطلق هذه الكذبة نصبا واحتيالا من أجل السلطة وجمع الزكاة والجزية والفتوحات الظالمة.

انظر كيف يدور الزمان وكيف أصبح المسلمون يعانون في الكثير من بقاع العالم من انعكاسات هذه الكذبة المشؤومة وتداعياتها. بسببها أصبحوا مضطهدين ومكروهين وغير مرحب بهم في كل مكان، إلى درجة أنهم يحرقون ويبادون بأطفالهم ونسائهم في البلدان التي يكونون فيها أقلية.

كل من يقرأ القرآن باستقلالية عن رجال الدين وعن مشايخ الشرق الأوسط يجد أن الحقيقة غير التي يزعمون. أما الحديث فأغلبه مصنوع بعد وفاة الرسول من أجل خدمة أغراض الحكام والفاتحين ،  وما رواته إلا بشر خاضعون لما تمليه عليهم مصالحهم والإكراهات. ولهذا يجب الحذر الشديد من أي حديث له علاقة بالخلافة والحكم والسياسة، كالأحاديث عن الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، ومسيلمة، وكسرى ملك الفرس، والأحاديث الشيعية المطولة التي تمجد عليا وغير ذلك كثير لا حصر له.

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى، فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
صدق الله العظيم.






عبد الرحمن الحنفي
30 يناير 2010
  

___________________________